في زمن الضغوط.. كرة القدم تحوّلت من فرجة عابرة إلى متنفس اجتماعي بالمغرب
في زمن الضغوط.. كرة القدم تحوّلت من فرجة عابرة إلى متنفس اجتماعي بالمغرب
لم تعد كرة القدم في المغرب مجرد لعبة أو منافسة رياضية موسمية، بل تحولت خلال السنوات الأخيرة إلى ظاهرة اجتماعية وإنسانية عميقة التأثير، تلامس وجدان المغاربة وتؤدي أدوارًا تتجاوز حدود المستطيل الأخضر، فمنذ الإنجاز التاريخي للمنتخب الوطني في كأس العالم قطر 2022، حين بلغ المربع الذهبي كأول منتخب عربي وإفريقي يحقق هذا الإنجاز، دخلت الكرة المغربية مرحلة جديدة، أعادت تشكيل علاقة المجتمع بالرياضة، ورفعت سقف الطموح، وفتحت في الوقت نفسه نقاشا واسعا حول الأبعاد الاجتماعية والسياسية لهذا الزخم الجماهيري غير المسبوق.
في تقرير لها الأربعاء ذكرت وكالة رويترز عن المشهد الرياضي في المغرب أن هذه الطفرة لم تقتصر على المنتخب الأول فقط، بل امتدت إلى مختلف الفئات العمرية والمنتخبات الوطنية، فبعد مونديال قطر 2022، حقق المنتخب الأولمبي المركز الثالث في أولمبياد باريس 2024.
وتوج منتخب تحت 17 عاما بكأس أمم إفريقيا 2025، بينما أحرز منتخب تحت 20 عاما كأس العالم للشباب في تشيلي، وفاز المنتخب الثاني بكأس العرب في قطر قبل أسابيع قليلة، كما سجلت كرة القدم النسائية حضورا لافتا ببلوغ دور 16 في كأس العالم 2023، وهذه الإنجازات المتتالية رسخت لدى الجمهور المغربي شعورا بأن النجاح لم يعد استثناء، بل أصبح إمكانية واقعية.
عقلية جديدة وطموح
يرى الدولي المغربي السابق حسن ناظر أن ما تعيشه كرة القدم المغربية اليوم هو نتيجة مسار طويل من العمل والتراكم، مدعوم باهتمام ملكي مباشر ومجهودات مؤسساتية تقودها الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم، ويؤكد ناظر في حديثه أن إنجاز قطر 2022 شكل نقطة تحول حاسمة في عقلية الجمهور المغربي، إذ انتقل من منطق الاكتفاء بالمشاركة أو التأهل إلى الأدوار الأولى، إلى منطق المنافسة على الألقاب ومقارعة المنتخبات الكبرى بندية، ويضيف أن إقصاء منتخبات عالمية مثل إسبانيا والبرتغال وبلجيكا عزز الثقة الجماعية، وجعل المغاربة يؤمنون بأن بلوغ النهائيات لم يعد حلما مستحيلا.
ويشير ناظر إلى أن هذا التحول الذهني انعكس أيضا على المنتخبات الصغرى والكرة النسوية، حيث أصبحت عقلية المنافسة حاضرة بقوة، وأضحى الوصول إلى المربع الذهبي أو النهائي هدفا مشروعا، لا إنجازا استثنائيا، كما يلفت إلى الدور المحوري الذي لعبته أكاديمية محمد السادس لكرة القدم منذ تأسيسها في 2009، في تكوين جيل جديد من اللاعبين وفق رؤية احترافية متكاملة.
لم يكن هذا التطور بمعزل عن استثمارات ضخمة في البنية التحتية الرياضية، فقد شهد المغرب خلال السنوات الأخيرة بناء ملاعب جديدة وتأهيل أخرى وفق معايير عالمية، استعدادا لاستضافة كأس أمم إفريقيا الجارية، وكذلك كأس العالم 2030 الذي سينظمه بالشراكة مع إسبانيا والبرتغال، هذه المشاريع عززت صورة المغرب كقوة كروية صاعدة، ورسخت لدى الجمهور شعورا بالفخر الوطني.
الضغط الجماهيري وحدوده
غير أن هذا الطموح المتصاعد حمل معه أيضا ضغطا جماهيريا كبيرا على اللاعبين والجهاز الفني، فقد تعرض المدرب وليد الركراكي لانتقادات حادة على مواقع التواصل الاجتماعي بعد أول مباراتين للمنتخب في كأس أمم إفريقيا أمام جزر القمر ومالي، حيث شكك بعض المشجعين في اختياراته التكتيكية والبشرية، لكن الفوز العريض على زامبيا بنتيجة 3 مقابل صفر أعاد الهدوء نسبيا، وأحيا الآمال في تحقيق اللقب القاري الغائب منذ 1976.
ويحذر المحلل والناقد الرياضي عبد الهادي الناجي من أن يتحول الطموح المشروع إلى ضغط غير محسوب، ويؤكد أن الجماهير المغربية باتت تتصرف كجمهور منتخب كبير، لكن الدعم الحقيقي يجب أن يقوم على الصبر والمواكبة النقدية المسؤولة، لا على المحاسبة العاطفية والمزايدات.
من زاوية تاريخية، يذكر الصحفي الرياضي يونس خراشي أن كرة القدم المغربية لطالما أنجبت نجوما عالميين منذ فترة الاحتلال الفرنسي وبعد الاستقلال، مثل العربي بن مبارك وعبد الرحمن بلمحجوب وحسن أقصبي، الذين تألقوا في أندية أوروبية مبكرا، غير أن السؤال الذي ظل يطرح لعقود هو لماذا لم تترجم هذه المواهب الفردية إلى إنجازات جماعية كبرى، ويرى خراشي أن الجواب يكمن في نقص التمويل والتكوين سابقا، وهو ما جرى تداركه لاحقا عبر الأكاديمية والدعم المؤسساتي.
الكرة كمساحة للثقة الجماعية
من منظور اجتماعي وإعلامي، يرى الباحث في الإعلام والاتصال هشام المكي أن الاهتمام المتنامي بكرة القدم يعكس تحولا عميقا في الوعي الجماعي، فالمغاربة لم يعودوا يتابعون المنتخب كفرجة عابرة، بل كفضاء رمزي لإعادة بناء الثقة الجماعية، واستعادة الإحساس بالقدرة على النجاح، في ظل سياق اقتصادي واجتماعي ضاغط.
ويشير المكي إلى أن هذا البعد برز بوضوح خلال احتجاجات شبابية شهدتها مدن مغربية في أكتوبر الماضي، طالبت بإصلاحات في قطاعات الصحة والتعليم، ورفعت شعارات تنتقد التركيز على كرة القدم، لكن بعد اعتقال عدد من المحتجين، تزامن فوز منتخب تحت 20 عاما بكأس العالم في تشيلي مع خروج جماهيري واسع للاحتفال، ما يعكس حاجة نفسية واجتماعية إلى لحظات أمل مشتركة.
بين الإلهاء والمتنفس الاجتماعي
يرى بعض المنتقدين أن الاستثمار الكبير في كرة القدم يمثل وسيلة لإلهاء الشعب عن قضاياه الحقيقية، ويذهب الصحفي علي أنوزلا إلى أن التعبئة الجماهيرية ضد المدرب واللاعبين ثم انقلابها إلى فرح عارم بعد الفوز، تكشف قدرة السلطة على توظيف كرة القدم للتأثير في الرأي العام، لكنه في المقابل، يعتبر المكي أن اختزال الظاهرة في هذا البعد فقط قراءة تبسيطية، لأن كرة القدم تؤدي أيضا وظيفة رمزية عميقة تتعلق بالانتماء والاعتزاز الجماعي.
ويؤكد الباحث الاجتماعي رشيد بوعبيد أن الإنسان يحتاج دائما إلى ما يوحده ويقوي شعوره بالانتماء، حتى وإن كان ذلك عبر رموز ظرفية، ويضيف أن المغرب، منذ الاستقلال في 1956 والمسيرة الخضراء في 1975، ظل يبحث عن محطات تعزز الحماس الوطني، وكانت الرياضة أحد أبرز هذه الميادين.
تاريخ كرة القدم المغربية مرتبط بشكل وثيق بالتحولات الاجتماعية والسياسية في البلاد، فمنذ تأسيس الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم في منتصف القرن الماضي، ظلت اللعبة مجالا للتعبير عن الهوية الوطنية وبناء الرمزية الجماعية، ومع تسارع وتيرة العولمة والاحتراف، أصبح الاستثمار في التكوين والبنية التحتية خيارا استراتيجيا، تُوّج بإنجازات غير مسبوقة بعد 2022، وفي ظل تحديات اقتصادية واجتماعية حقيقية، تبدو كرة القدم بالنسبة لشرائح واسعة من المغاربة متنفسا لتفريغ الضغط الاجتماعي، ومساحة مشتركة للأمل، أكثر من كونها مجرد لعبة أو أداة إلهاء.











